Posted: 07 Mar 2015 05:14 AM PST
المؤمن منهي أن يحزن على من لم يدخل في الإسلام، أو يكون في ضيق من مكر أعداء الدين.
قال
ابن تيمية رحمه الله في شرحه لحديث “بدا الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما
بدأ”: “وكما أن الله نهي نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام
في أول الأمر، فكذلك في آخره. فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضيق
من مكرهم.
وكثير من الناس إذا رأي المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام جَزَع وكَلَّ ونَاحَ، كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا؛
بل هو مأمور
بالصبر
والتوكل
والثبات على دين الإسلام،
وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون،
وأن العاقبة للتقوى.
وأن ما يصيبه فهو بذنوبه،
فليصبر، إن وعد الله حق،
وليستغفر لذنبه،
وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ”ثم يعود غريبًا كما بدأ” يحتمل شيئين:
أحدهما:
أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبًا بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر
غريبًا ثم ظهر؛ ولهذا قال: “سيعود غريبًا كما بدأ”. وهو لما بدأ كان غريبًا
لا يعرف ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف. فيقل من
يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا.
ويحتمل
أنه في آخر الدنيا لا يبقي مسلمًا إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال
ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة. وحينئذ يبعث الله ريحًا تقبض روح كل مؤمن
ومؤمنة، ثم تقوم الساعة. وأما قبل ذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لاتزال
طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم
الساعة). وهذا الحديث في الصحيحين، ومثله من عدة أوجه. فقد أخبر الصادق
المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم
المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريبًا ذليلًا في الأرض كلها
قبل الساعة فلا يكون هذا.
وقوله
صلى الله عليه وسلم: (ثم يعود غريبًا كما بدأ) أعظم ما تكون غربته إذا
ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ) [المائدة: 54] . فهؤلاء يقيمونه
إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريبًا ولم يزل يقوى حتى انتشر. فهكذا يتغرب
في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر، حتى يقيمه الله ـ عز وجل ـ كما كان
عمر بن عبد العزيز لما ولي. وقد تَغَرَّبَ كثير من الإسلام على كثير من
الناس، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر. فأظهر الله به في الإسلام ما
كان غريبًا.
وفي السنن: “إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. والتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام.
وهذا
الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق
صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ. قال
تعالى: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ
الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) [يونس: 94] ، إلى غير ذلك
من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.
وكذلك
إذا تغرب يحتاج صاحبه من الأدلة والبراهين إلى نظير ما احتاج إليه في أول
الأمر. وقد قال له: (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ
فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) [يونس:94] ،
وقال تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ
يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)
[الفرقان: 44]. وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض
الأمكنة. ففي كثير من الأمكنة يخفي عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا
بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد. ومع هذا، فطوبي لمن تمسك بتلك
الشريعة كما أمر الله ورسوله، فإن إظهاره، والأمر به، والإنكار على من
خالفه هو بحسب القوة والأعوان.
وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. ليس وراء ذلك من الإيمان حَبَّة
خَرْدَل”.”اهـ مجموع الفتاوى (18/295-299).
No comments:
Post a Comment